آخبار عاجل

رواية مايا  بقلم: محمد مصطفي الخياط

27 - 09 - 2021 10:05 534

 

الفصل العشرون
("أَنختُ إبلى عند آبار مائها لترتوى فعدت من سفرى مشقق الشفاه أشكو العطش")

كان صباحا خريفيا، مدت فيه الشمس أشعتها ودفئها إلى بيروت، أزحت ستارة النافذة وابقيت زجاجها مغلقا فانكفأ الضوء مسترخيًا على أرضية الغرفة حتى بلغ السرير فتسلقه ونام على أقرب الوسائد إليه عاجزًا عن تخطيها بعد ما بلغ منتهاه. يهدهد الهواء نبتة الريحان على الشباك، اتعهدها من وقت لآخر بالماء وبعض السماد، تهتز إلى جوارها سيقان النعناع فيعبق الجو برائحة تعيدنى إلى طفولتى، إلى حزام سيقان النعناع البلدى المتداخل مع أعواد الريحان حول بيتنا بالقرية؛ ما إن يحركه النسيم قليلاً حتى تنتشر في محيط البيت رائحة خليط منهما؛ مُعطر طبيعى يتفاعل مع ما حوله.
النهار تفاؤل، إحساس بالألفة والونس، بالعشم في أمل جديد يأتى معلقًا في أذيال أشعة الشمس، يتراقص مع نسمات الفرح؛ تنشب الكائنات فئوس اجتهادها في حقل الحياة، فإذا ما أسدل الليل عباءته خلدت إلى الراحة؛ النوم ورشة صيانة ذاتية للأجهزة الحيوية، يراجع المخ دفتر يومية عمل خلاياه، يقارن بين النسب القياسية والفعلية، تُمنح أولوية الصيانة لتلك التى شَطْت نسب أدائها، يعيد ضبط إفراز الإنزيمات طبقا لبروتوكول وشفرة عمل كل خلية، وعندما يطمئن إلى برامج الصيانة يضع ختم إدارة الجودة، تكرار التعرض لذات الضغوط والمشاكل يطيح بمستويات الضبط.
للحكى أثر السحر في النفوس، إنه ذلك الرابط السحرى الذى يجمع حلقات الكورنيش، ما إن نهل حتى يبادرنا شفيق بعبارته الترحيبية الأثيرة "صباحوووو"، فتنفرج الأسارير رغم ما يغشاها أحيانًا من كدر، يبدأ خيط السرد والحكى رائقًا رفيعًا أول الأمر، ثم سرعان ما يتدفق دافئًا عذبًا، إلا إذا مر بدروب السياسة، وغالبًا ما يمر؛ عندها يرتفع صهد الحديث من فوهة آتون الأحزاب والانتماءات.
للحاج سعيد حرفيته في إذكاء شعلة الحوار، يلقى الطُعم أمام سيدانى وينتظر بعيدًا، يتحدث بعفوية تبدو معها تعليقاته غير مقصودة، فيما يكون طبخها وسبكها وأضاف إليها بهاراتها الحريفة في عقله ثم يغلفها بغشاء البراءة فيقول ناطقًا حرف القاف أَلِف قطع:
-    والله أظن حِزِبْ ألله ما راح يقرر ينزل مرشحين لهاى الدايرة الانتخابية؟، فيه تواجد قوى لتيارات مضادة !!
عندها يقطب سيدانى حاجبية، ويضيق عينيه فتبدوان من خلف نظارته السميكة حمصتين صغيريتين، ثم ينطلق معددًا الرموز الانتخابية التى يمكن لحزب الله ترشيحها، يذكر تاريخهم وأعمالهم كأنما يقرأ من كتاب مفتوح، لا يوقفه شيء.
يجرى كل هذا والحاج سعيد يراقب مستوى حرارة الحوار، اشتراك ميشيل يكسب الحوار أبعادًا أخرى ومستويات تدفق لا تتكرر سوى في حمى الانتخابات، فإذا وجده منصرفًا عازفًا عن التجاوب، ألقى أمامه بطُعم آخر يبدو كسابقه عفويًا وتلقائيًا، فيقول مقارنًا،
-    والله ما إلنا غير مصلحة هاي البلد، بس فين مرشحك عبد الله شرشوب من الدكتور بطرس حماده، يا ألله، أرض وسما!!
ثم يردف،
-    ولا ما هو هيك ميشيل؟
كعادته يبدأ ميشيل حديثه بنصف ضحكة مبتورة، فلا تعرف أفطن لسريرة الحاج سعيد ويرغب في مجاراته أم أنه غير منتبه، لكنه يمضي غير متردد في ذكر ما حصل عليه الدكتور بطرس من شهادات وما تقلده من مناصب في الخارج وفرصة اختيار رجل خَبِرَ العالم واكتسب خبرات كبيرة تؤهله لأن يعطى عطاءً يختلف عن أولئك المتقوقعين في ضواحى بيروت وصيدا؛ فكثرة الأسفار والاحتكاك بالخارج تُكسب المرء خبرات متعددة وتمنحه زوايا رؤية جديدة. 
ما إن يرد ذكر صيدا وضواحى بيروت حتى يوقن سيدانى أن الحاج سعيد يغمز حديثه إلى معاقل تمركز الشيعة، فلا يملك سوى القفز في قلب الحوار غير عابئ بالنتائج، حتى وإن خسر الجميع، والجميع يعلم ما ستسفر عنه هذه الحوارات، حتى لو غضب سيدانى واعتزلنا، فليس أكثر من يوم أو يومين حتى يعود، كما هى عادته، يتمشى على الكورنيش غير بعيد من جلستنا وكأنه لا يرانا ولا نراه، فيهمس الحاج سعيد لشفيق بصوت منخفض،
-    صاحبك عم يتمشى .. بده يرجع .. ناديه !!
فلا ينفك شفيق إلا وقد علا صوته مناديًا، وكنكة القهوة في يمناه،
-    صباحوووو سيدانى
فيرد متصنعًا شيئًا من غضب وبصوت مقتضب وكأنما يخطف الكلمة خطفًا يقول،
-    إصباح الخير
-    إيه ما شفتنا تلاقيك؟
-    لا .. شفتكن!
-    وما تصبح علينا؟
-    بصبح
-    ليش ما شفناك أمس
-    مشاغل
-    طب واليوم
-    قلت اتمشى ع الكورنيش وحدى
-    راح تموت إذا مشيت وحدك سيدانى
-    ليه؟
-    هاى المجموعة ما يقدر واحد فيها يعيش وحده، نحنا السمك والمى، كلنا عايزين بعضنا
-    ولو!
-    قهوتك !
-    يسلموا
وما إن يجلس حتى ينظر إليه الحاج سعيد بعين كلها تحفز ورغبة في المشاكسة والمشاغبة البريئتين ويبادره قائلاً،
-    قولى يا سيدانى، لسه عند رأيك في عبد الله شرشوب ؟
فينظر إليه شاخصًا لا يدرى بما يجيب، وما هى إلا لحظات وينفجر الحضور بالضحك، بما فيهم سيدانى، وينتهى الأمر، مشهد تكرر مرات لا حصر لها؛ تختلف بعض تفاصيله ويبقى تسلسله بلا تغيير.
كانت جلسة الكورنيش قد قاربت على نهايتها، كالعادة نتأخر في العطلات، وكأن الحاج سعيد أبى ألا ننصرف دون مشاغبة أبو فادى، فبادره معلقًا،
-    والله هارون الرشيد ما بينزل بيروت إلا إذا قرر ياخد هدنه من حروبه مع النساء
فعقب ميشيل بصوت مسرحى ولغة عربية فصحي،
-    لا يا سيدى، إنه فقط يغير ساحة الحرب
فيضحك الحضور وكذلك أبو فادى الذى يدافع عن نفسه بين ضحكه ورغبته في الرد،
-    ألله يهديك يا سعيد
وما هى إلا هنيهه حتى جمع شفيق أدواته وأذن للجمع أن ينفض على أمل اللقاء.
اصطحبت ميشيل والحاج سعيد معى في سيارتى، ركبنا معًا وما زالت الضحكات عالقة بشفاهنا، تخللتها نكات من ميشيل تعقيبًا على بعض ما دار في الجلسة، وبعد ما نزل كل منهما أمام بيته واتفقنا على دوام التواصل انحدرت بالسيارة في الاتجاه المقابل، بينما الساعة الفسفورية المثبتة في تابلوه السيارة تقترب من الثامنة والنصف.
كان قد مضى على سفر إيلى أسابيع قليلة اضطربت فيها علاقتي بمايا أيما اضطراب فاقت عذاباتي فيها كل ما سبق وعشته من آلام، كنت قد اتخذت قرارى ولم يعد سوى إبلاغها إياه، ولكن أتواتيني الشجاعة للنطق به، وهل إذا حدث، ألدى القدرة على تنفيذه وعدم النكوص.
عندما أراجع حياتي معها، أرى انكساراتي وهزائمي، لم أقو على البعد، وكثيرًا ما عدت خائبًا مخذولا، لكننى وبدون تفكير، كمن يقفز حلقة نار غير مبال بما يصيبه، بعد ما أيقن أن في وقوفه هلاكه، فقرر الإقدام على خطوة غير محسوبة العواقب. أخرجت هاتفي من جيب سترتي واتصلت بها فجائنى صوتها رخوًا ما بين الصحو والنعاس،
-    وينك؟
-    موجود!
-    كيفك؟
-    الحمد لله
-    بالك مشغول
-    شوى، فيك ناخد ترويقة سوا ؟
-    لساك ما فطرت؟
-    إيه نعم
-    وين بتحب ؟ 
-    بنلتقى ونقرر
-    خلاص 
-    نص ساعة واكون معك
-    تمام
-    سلام حياتى
-    سلام
-    .....
أخذت طريق رأس بيروت منحدرًا إلى شارع كمال شاتيلا الواقع على أول شارع الحمرا، هناك يمكننى أن أجد محلاً للسيارة، يمضى الطريق بين بعض المرتفعات والمنخفضات، بعد عشر دقائق كنت أغادر سيارتى بعد ما صففتها في مكان خال قبالة بائع الجرائد؛ أسمر ممصوص الوجه كحبة تمر مُغبرة، وترجلت نحو شارع الحمرا أحمل هموم العالم فوق كتفي.
كان الشارع شبه خال من المارة، قاربت الساعة التاسعة صباحًا، والمطاعم تفوح منها روائح مخبوزاتها الصباحية الطازجة مخلوطة بالزعتر الجبلى تتلهف لأفواه محبيها، شتان بين حال الشارع صباحًا وحاله مساءً، هدوء في الصباح وصخب في المساء.
من خلف الأبواب المعدنية الشبكية الموصدة تسكعت أمام بعض فترينات الملابس، دخلت مكتبة أنطوان، أحد أقدم مكتبات بيروت والأشهر في الشارع، تجولت في الطابق الأول؛ تشعرك كتب السياسية أنك أمام فوهة فرن لا تنطفئ ناره ولا يغلق فمه اكتفاءً، كتابات شتى وآراء من هنا وهناك. التزامًا بموعدى أرجأت الصعود للطابق الثانى لوقت آخر، لا يحتاج الطريق سوى عشر دقائق سيرًا على الأقدام لأنتظرها أمام محل ألدورادو، بينما لا تحتاج هى سوى عبور الطريق.
بدا الشارع كعادته نظيفًا، تكسوه أناقة، كسكانه البيروتيون؛ جمال وأناقة تشعر معهما أن نساءها خرجن من حمامات الصباح وصالونات التجميل للشارع مباشرة، ومايا ليست إلا مثالاً لهن، رغم مشاغلها وأحزانها لا تنسى أن تسكن مرآتها، تضع شيئًا من كحل، وشيئًا من مساحيق خفيفة على زوايا الوجه، تقف أمام خزانة ملابسها تفكر وتقارن، تحاول الإجابة على سؤال يتكرر كل صباح دون ملل، (إيش يلبق)، تمد يدها إلى إحدى الشماعات، تخرجها، تُديرها يمينًا ويسارًا، تضعها على جسمها وتنظر في المرآة، تقارن بين موديلين أو أكثر، وعندما تقتنع أنها وجدت الأنسب تلقى به على سريرها وتشرع في ارتدائه، ودائمًا يليق ما تختاره بها، أليست هى من قرر شراءه من قبل، فكيف لا يناسبها، لكنها لذة الحيرة عند تعدد الاختيارات، والرغبة في أن تعبر ملابسها وعطورها وتسريحة شعرها عن رسائل شتي.
حتى وصولي عند محل آلدرادو لم أكن قد قررت بعد في أى المطاعم سوف نتناول فطورنا، لدينا عدة اختيارات؛ في الزقاق التالى وعلى اليمين يوجد مطعم ليلى وهناك مقهى ستاربكس على بعد مائة متر ينتظر بقهوته وكعكه ومخبوزاته، فضلت انتظارها لنقرر معًا أى المطاعم نقصد، فعن قريب، بل بعد لحظات، سوف يشهد المطعم الذى سنختاره صدور أصعب قرارتي، سوف يصبح مسرح التراجيديا الأول بحق، أَعِنِى يا الله.
تمشيت مُبطِئًا خطواتى على الرصيف جيئة وذهابا ريثما تأتى، جائنى صوتها ينادينى من خلفى، تلفت نحوها فأقبلت ترفل في جمالها الطبيعى مرتدية بلوزة زرقاء اللون مع سروال كحلى أحكمته حول وسطها بحزام جلدى ذو لون بنى فاتح كأنما صُنع وحذائها البسيط الأنيق من نفس قطعة الجلد، سَلَمَت وطَبَعَت قبلتين سريعتين على خدىّ،
-    ظنيتك ناطر بمحل ليلى
-    ما اتفقنا بعد ع المحل
-    بعرف، قلت إذا ما بلاقيك في الشارع، غالبًا بتكون ناطر ع المحل
-    قلت استناك ونختار سوا
-    يا قلبى، شو أقول، ما لاقية كلام بَعِدْ
-    .......
-    بتحبى نفطر فين
-    ليش ما جيت نفطر سوا بالبيت
-    ....
نظرت إليها نظرة ذات معنى ثم قلت، (المهم اننا نفطر سوا)، زرتها في بيتها مرة، كانت تلح أن أزورها لأراه فلبيت الدعوة كضيف مقرب من الأسرة؛ تناولنا بعض المشروبات ثم أعدت لنا الخادمة العشاء فتناولناه معًا وانصرفت، كانت المرة الأولي والأخيرة. 
منذ سافر إيلي والجدار الفاصل بيننا يرتفع يومًا بعد يوم، مرة أجد في نفسى صدًا للقائها، ومرة زُهدًا في رسائلها، وقد يمر اليومين أو أكثر دون تبادل مكالمة، وأحيانًا أضرب بضيقي عرض الحائط وأُلقى بنفسى في آتون نارها فنلتقى بعيدًا عن بيروت؛ مرة في فندق آركادا مارينا في جونية، وأخرى في بيبلوس ستار بجبيل، وكأننى أهرب من بيروت؛ أتصور أنها تراقبنى وتتعقب خطواتى، شيء ثقيل يجثم على صدرى متى التقينا فيها، يداهمني ويحط بثقله حتى أكاد اختنق.
من جهتها، حاولت جاهدةكسر الحاجز النفسي القائم بيننا، دعوات للعشاء أو السهر مع بعض الأصدقاء، إلا أن معظم تلك المحاولات باءت بالفشل، انسكب ذلك على علاقتنا فمسها كثير من برود، تزورنى في بيتى، فنقضي الوقت صامتين ننظر تجاه شاشة التلفاز دون متابعة حقيقية، نكسر الصمت الـمُقنع بأسئلة رتيبة من قبيل، (بدك تشرب قهوة)، فيرحب الطرف الآخر أو يعتذر، نبحث عن كلمات في فضاء الصمت فلا نجد، وإن حاولنا تخرج جثثًا ميتة مبعثرة على قارعة الشفاة، أين هذا من زمن كنا نحترف فيه فن الكلمات والضحكات والغزل؛ ذهب وما عاد بإمكانه الإياب، تلاشي، تبخر؛ قتله عذاب سيزيف.
كنا ما زلنا في وقفتنا أمام محل آلدورادو نختار المطعم، وقد كشف كتف بلوزتها الساقط عن عصفورين نُقشا على كتفها الأيسر وقد تداخلت ألوانهما؛ الأحمر الداكن مع الأسود المنطفئ، يرفرفان في سعادة وقد غرسا منقاريهما في زهرة تيوليب داكنة الحمرة، بدت جميلة كعادتها، وإن لم تحرك مشاعرى السابقة كما كان يحدث من قبل.
كيف فقدت منحنياتها وأقواسها وخطوطها المستقيمة وشبه المستقيمة سحرها وإغوائها، أين رحل سرب فراشاتها المهاجر على جغرافيا جسدها العاجى، أتراه غادرها بعد ما غرس عقرب الفتور سمه في قلبي أم اختبأ في أحد الزوايا والأركان منتظرًا تأجج نار المجوس، لا أذكر كم مرة أحصيت فراشاتها وسط ضحكاتها، تكاد لا تتماسك من الضحك، تدغدها لمساتي، فأضحك وافتعل أنى أخطأت، وأعيد العد فيما هى غارقة في ضحكها.
كانت إذا ضحكت أغمضت عينيها وضحكت خلايا وجهها؛ لكل خلية ضحكة خاصة بها، تضحك حتى تُشرق عيناها بالدمع، بينما تحاول يائسة إيقاف عد الفراشات، فأناغشها قائلاً إن فعلها هذا يجعلنى أُخطئ وأعاود العد من جديد، فلا تلبث تتلوى ضحكًا، ثم تتكور كجنين اتقاء مناغشاتى، فأتركها تلتقط أنفاسها فيما كل ما حولنا يضحك لضحكها.
أين ذهب كل هذا؛ صرنا غرباء، نتلافى التقاء عيوننا بعد ما كنت أثبت وجهها بين كفيى وأنظر في عينيها، أُبحر فيهما من دون بوصلة تدلنى ولا ملاح يأخذ بيدى في متاهات دروبها وفضاءات فتنتها مسحورًا في ساحات دهشتها، أتأمل عمارتها وفسيفسائها ومنحوتاتها الصخرية والرخوة، واحاتها وكثبان رملها، نخيلها ونجيلها، أَنختُ إبلى عند آبار مائها لترتوى فعدت من سفرى مشقق الشفاه أشكو العطش. 
كل شيء فينا تغير، حتى هى صارت أكثر توترًا وزادت فترات شرودها وحديثها إلى نفسها، تعد على أصابعها وترسم أشكالاً وهمية في الفراغ، كعادتها كلما حزبها أمر، ينتابها هاجس الفراق، فيُجَن جنونها، تختبئ في صدرى كطفل لا يطمئنه سوى صدر أمه، زادت حدة غيرتها وشكها، تفتش في هاتفى، تستجوبنى، أين كنت، ومع من تحدثت، ولماذا اجتمعت بهذه، ولماذا تتبسط مع تلك ومن السيدة الملتصقة بك في الصورة، هل ستسافر القاهرة قريبًا، هل تتواصل مع غادة، تتوالى دوامات استفساراتها بلا توقف، كتل صخرية تندفع من أعلى جبال الشك والحيرة تتلاحق دون انتظار إجاباتى، تتلهف لإفراغ طاقتها السلبية، أو بالأحرى تفجيرها في وجهى، وأحيانًا تنقطع أسئلتها فجأة وتُجهش بالبكاء مُرتميةً على أقرب أريكة، حينها لا تطيق أن أمسها أو اقترب منها،
-    مايا .. أنا لا أخدعك
-    بعرف
-    طيب ليه هاى التوتر، ليه تدورى ع القلق والتعب
-    ....
-    خَبرينى
-    اليوم أو ع بكره بتتبدل الأمور، أنت بتترك بيروت، وإيلى بيعود، الله دخيلك إيش بدى أفعل؟
-    والله غريبة .. مايا تقول هيك، وانت اللى كنت دايما تقولى ما تخلى (بعدين) تفسد علينا (الآن)
-    ما عدت قادرة اتحمل
-    ....
حينها، أنسى عذاباتى، أتسلق الجدار الفاصل بيننا، أقف أعلاه، أثبت عيناى على موجها المتلاطم، تغيب عنى صخور شواطئها، تهب عاصفة تجر الموج من شعره، فيهيج، تطل حورية البحر تتلألأ على صدرها أصداف زينتها، تدعونى لعناقها، أفرد ذراعاى كجناحى طائر عملاق، أُلقى بنفسى محلقًا في سماواتها، تفتح الحورية ذراعيها، تحركهما في الهواء، أحوم حولها، تتابع تحليقى بعينيها في دوائر متتالية، أضم ذراعاى إلى بعضهما البعض، كرأس حربة، ثم انطلق صوبها مخترقًا كبد البحر.
أفيق ووجهها بين كفىّْ، أنظر في عينيها، أهمس مخادعًا قلبى وعقلى (جه دورى اطمنك، ما بدى أتركك ولا أبعد عنك)، تدفن رأسها في صدرى وأسمع نشيجها، وأرى سيزيف حاملاً صخرته صوب قمة جبل الخطايا، ثم تحين منه التفاته إلى السفح، يتمزق بين رغباته الداخلية.
لا لن أكمل صعودى إلى القمة هذه المرة، قمة جبل المغفرة هى سفح جبل الخطايا، ليست نهايات .. إنما هى بدايات متعاقبة.
أفقت من شرودى، وإن لم يمنعني ذلك من الحديث مع نادل مطعم ليلى بشأن موقع طاولة الطعام، ثم أفاقنى سؤالها المفاجئ،
-    فيك نغير المكان !!
نظرت نحوها مندهشا واعتذرت للنادل، وخرجت ممسكًا بمرفقها وتساءلت مبتسما،
-    ما كان بدك تكسفي الجرسون !
-    باردون حبيبي، حبيت نغير المكان
-    عندك اقتراحات ؟
-    إذا بتريد محل قريب، عنا مطاعم بربر على بعد شارع من هون، وإذا بدك تغيير خلينا نروح ع الكورنيش وناكل  كنافة نابلسية بالقَطْر
-    .....
تمشينا إلى حيث صففت سيارتى، بدت قلقه، تُرى ألبعدى عنها أم ثمة سبب آخر لا تستطيع البوح به ويزيد عبئه وثقله عليها مع الوقت، هل هناك ما تخفيه عنى، هل هناك ما تتردد في مصارحتى به، لا أدرى، عذاباتها الأخيرة وبكاءها المتكرر كلما التقينا وقلقها المتزايد يشعرانى بالحيرة. سرنا، شبه صامتين، لنحو خمسة عشر دقيقة تتنازعنى الهواجس والأفكار، ركبنا السيارة وسرنا بمحاذاة الكورنيش.
جلسنا على طاولة أمام محل الحلاب للحلويات، كان الجو معتدلاً وشمس بيروت ترسل دفئها في الأنحاء وتكسو ما حولنا بغلالة ذهبية تمتد خيوطها في الأفق، والبحر قبالتنا في الجانب الآخر على أرجوحة الصباح، مد وجزر، بينما طيور النورس تناور بحثًا عن فطور بحرى طازج، طلبت كنافة بالجبنة فيما طلبتها هى سادة، وعقبت،
-    لزوم الحمية "رجيم"، ما بدى انصح "اتخن" وينقطع نَفَسى من شان انزل جرامات من وزنى
نظرت في عينيها ثم قلت،
-    مايا ؟!
-    عيونى ..
-    جه دورى اتكلم معك
-    أكيد، ما جينا لهون عشان ترويقة "فطور" وبس، ضرورى بنحكى
-    ...
-    احكى حبيبى
-    ....
نظرت في عينيها لبرهة صامتا، ابتسمت وقالت،
-    فيك مكسوف؟
ثم سحبت سيجارة واشعلتها، متكئة بمرفقها على الطاولة كعادتها وراحت تنظر نحوى من خلف نظارتها الشمسية، وعندما طال الصمت، خلعت النظارة وأطفأت سيجارتها، وقالت، 
-    فى إشى كبير بدك تقوله
-    ...
-    اتكلم (بلييز)
-    إيش شاغلك ومغيرك ؟
-    مين يسأل مين ؟، أنت تسألنى ولا أنا أسألك؟، ع العموم ما أنا وحدى إتغيرت !!
-    صحيح !!
-    ...
-    لكنى حاسك كثير مشغولة، في إشى ما قادرة تخرجيه من راسك ولا قادرة تخبرينى بيه
قالت وهي تداري عينيها بعيدًا وتمضغ شفتاها كلاما ربما ودت لو تبوح به، 
-    ولا إشى !
-    كِيف ولا إشى، خلينى أبدأ بنفسى
فقالت بصوت واهن،
-    اتفضل 
-    أنا تغيرت مع حضور إيلى، حسيت ولأول مرة إنك مش إلىّْ ولا أنا إلك، كِيف بدنا نكمل على هاى الصورة، وإذا فيه شيء مو صح ليش بنكمل فيه ؟، عن جد تعبان ومانى مرتاح.
-    قصدك بنبعد، يعنى قلقى وحيرتى وتوهتى لها سبب، حاساك بعيد وكل يوم بتبعد أكثر، وده جَنَني .. أنا ما عندى استعداد أخسرك لأى سبب .. لازم نفضل سوا 
-    إيش بدك أسوى ؟
-    ترجع زي ما كنت 
أجبت وعيناي تنظران في عينيها بينما تتنازعنى رغبات داخلية متعارضة،
-    ما بقدر !! 
-    .....
نظرت نحوى مشدوهة لا تدرى ما تقول، اهتزت يدها بفنجان القهوة ارتجاف أوراق الشجر من سريان النسيم فوضعته على الطاولة، تجمدت ملامحها لبعض الوقت، هزت بعدها رأسها بأسى، ثم قالت (يا يما) وراحت تبكى وتنتحب مغطية وجهها بكفيها فيما جلست قبالتها عاجزًا عن فعل شيء. 
إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved